شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ "
أقسام المحبة وأنواعها ؟!
لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام، الذي يدور عليه قطب رحاها، فبكمالها يكمل الإيمان، وبنقصانها ينقص توحيد الإنسان..
نبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ رحمه الله على وجوبها على الأعيان،
ولهذا جاء في الحديث:
" أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ... "
الحديث رواه الترمذي والحاكم.
وفي حديث آخر: "أحبوا الله بكل قلوبكم".
وفي حديث معاذ بن جبل في حديث المنام:
"وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك".
رواه أحمد والترمذي وصححه.
وما أحسن ما قال ابن القيم في وصفها:
هي المنْزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، وإلى عملها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون،
فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون،
وهي الحياة التي من حرمها، فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده، ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه، حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها، فعيشه كله هموم وآلام،
وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم
يكونوا إلا إِلاَّ {بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبدًا بدونها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، وقد قضى الله تعالى يوم قدر مقادير الخلائق، بمشيئته وحكمته البالغة، أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة.
تالله لقد سبق القوم السعاة، وهم على ظهور الفرش نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في مسيرهم واقفون، وأجابوا مؤذن الشوق، إذ نادى بهم:
حي على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول مسراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. وأطال في وصفها فراجعه في "المدارج".
واعلم أن المحبة قسمان، مشتركة وخاصة:
فالمشتركة: ثلاثة أنواع ؟!
_أحدها: محبة طبيعية:
كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، ونحو ذلك. وهذه لا تستلزم التعظيم.
_الثاني: محبة رحمة وإشفاق:
كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم.
_الثالث: محبة أنس وألف:
وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة، بعضهم بعضًا.
فهذه الأنواع الثلاثة، التي تصلح للخلق، بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصِّدِّيق رضي الله عنه.
القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله، ومتى أحب العبد بها غيره، كان شركا لا يغفره الله، وهي محبة العبودية، المستلزمة للذل، والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً كما حققه ابن القيم،
وهي التي سوَّى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها.
كما قال تعالى في الآية التي ترجم لها الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} .
قال ابن كثير: يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا لله أندادًا،
أي: أمثالاً ونظراء، يحبونهم كحبه، ويعبدونهم معه، وهو الله الذي لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه.
وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} :
أي: يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم، ولهذا يقولون لأندادهم،
وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . فهذا هو مساواتهم برب العالمين،
وهو العدل المذكور، في قوله:
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
أما مساواتهم بالله في الخلق والرزق وتدبير الأمور، فما كان أحد من المشركين يساوون أصنامهم بالله في ذلك. وهذا القول رجحه شيخ الإسلام.
_والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم، كما يحب المؤمنون الله، ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
وهذا متناقض، وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد، مثل محبة المؤمنين الله، ودلت الآية على أن من أحب شيئًا، كحب الله، فقد اتخذه ندًّا لله، وذلك هو الشرك الأكبر،
قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله.
وعلى وجوب إفراد الله بالمحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب،
إنما نشأ عن المحبة، ولأجلها، فهي الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سر التأله، وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله وليس كما زعم المنكرون، أن الإله هو الرب الخالق، فإن المشركين كانوا مقرين، بأنه لا رب إلا الله، ولا خالق سواه، ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله الذي تألهه القلوب حبًّا وذلاًّ وخوفًا ورجاء، وتعظيما وطاعة، إله بمعنى مألوه،
أي: محبوب معبود، وأصله من التأله،
وهو التعبد الذي هو آخر مراتب الحب، فالمحبة حقيقة العبودية، ودلت أيضًا على أن المشركين يعرفون الله ويحبونه، وإنما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الأنداد في المحبة، فكيف بمن أحب الأنداد أكثر من حب الله!
فكيف بمن لم يحب الله أصلاً، ولم يحب إلا الند وحده فالله المستعان.
قوله: " وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ".
نتكلم عليها لتعلقها بما قبلها تكميلاً للفائدة، وإن لم يذكرها الشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله،
وفيها قولان:
_ أحدهما وهو الصحيح أن المعنى:
والذين آمنوا أشد حبًّا لله من محبة المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة.
_والثاني: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من حب أصحاب الأنداد لأندادهم التي يحبونها من دون الله.
قال ابن القيم_رحمه الله :
والقولان مرتبان على القولين في قوله: يحبونهم كحب الله. وفي الآية دليل على أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وأن الشرك محبط للأعمال.
[توعد من قدم شيئا على محبة الله ورسوله]
قال: وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ... } إلى قوله:
{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } .
هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وعشيرته وأمواله ومساكنه، أو أحد هذه الأشياء على الله ورسوله،
وجهاد في سبيله، وقد خوطب بهذا المؤمنين في آخر الأمر، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله ،
فقيل لهم:
{إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}
أي: حصلتموها،
{وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}
أي: رخصها وفوات وقت نفاقها،
{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}
أي: لحسنها وطيبها،
{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عذاب الله،
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
أي: الخارجين عن طاعة الله.
وهو تنبيه على أن من فعل ذلك، فهو من الفاسقين فهذا تشديد، ووعيد عظيم، ولا يخلص منه إلا من صح إيمانه فخلص لله سره وإعلانه، وعلى أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها، فكيف بمن آثر بعضها على الله ورسوله، وجهاد في سبيله!
فإن قلت: قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله: إن كثيرًا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة.
قيل: مراده أن كثيرًا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب إليه من الله ورسوله
أي: في إيثار ذلك على فعل أمر الله، وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله، فإن من ساوى بين الله وبين غيره في هذا الحب، فهو مشرك، فكيف إذا كان غير الله أحب إليه كما هو الواقع من عباد القبور، فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب الله، وذلك أن أصل الحب يحتمل الشركة بخلاف الخلة، فإنها لا تقبل الشركة أصلاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن وأسامة:
"اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما". حديث صحيح.
واعلم أن هذه الآية شبيهة بقوله:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}
فلما كثر المدعون لمحبة الله، طولبوا بإقامة البينة، فجاءت هذه الآية ونحوها.
فمن ادعى محبة الله، وهو يحب ما ذكر على الله ورسوله، فهو كاذب كمن يدعي محبة الله، وهو على غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كاذب، إذ لو كان صادقًا لكان متبعًا له،
قال مبارك ابن فضالة: عن الحسن. قال: كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله إننا نحب ربنا حبًّا شديدًا، فأحب الله أن يجعل لحبه عَلَمًا فأنزل الله:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
وقد وقع لكثير من المدعين نوع انبساط في دعوى المحبة أخرجهم إلى شيء من الرعونة والدعاوي التي تنافي العبودية، ويدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الأنبياء، ويطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله. وسبب هذا ضعف تحقيق المحبة التي هي محض العبودية، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، ومدعي ذلك فيه شبه من اليهود والنصارى الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
وشرط المحبة موافقة المحبوب، فتحب ما يحب، وتكره ما يكره، وتبغض ما يبغض، وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره، لكون الله يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة الله تسقط عنه التكاليف، وكقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدًا، فإن بريء منه،
فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار، فإنه بريء منه. ونحو ذلك من الدعاوي مع أن كثيرًا من هذا ونحوه لا يصدر إلا من كافر، والعاقل يتنبه.
وما هكذا كان سادات المحبين:
الأنبياء والمرسلون، والصحابة، والتابعون، فكن على حذر من ذلك، فإن كثيرًا من جهال المتصوفة وقع فيه، وقد ينسب ذلك إلى بعض المشايخ المشهورين، وهو إما كذب عليهم، وإما خطأ منهم، فإن العصمة منتفية عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
[لا يكمل إيمان العبد حتى يحب الرسول أكثر من جميع البشر]
قال: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" .
أخرجاه
قوله: (لا يؤمن أحدكم) :
أي. لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب إليه من أهله وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضًا،
كما في حديث "عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك،
فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر"
. رواه البخاري. فمن لم يكن كذلك، فهو من أصحاب الكبائر، إذا لم يكن كافرًا، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبًّا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله، لأن ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قاله شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله . وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب، فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا. فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة، لكن كل مسلم لا بد أن يكون محبًّا بقدر ما معه من الإسلام كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلمًا، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنًا، وإن لم يكن مؤمنًا الإيمان المطلق،
لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، فإن الاستسلام لله ومحبته لا تتوقف على هذا الإيمان الخاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، وهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال. وهؤلاء إن عرفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق انتهى.
قوله: (أحب) . هو بالنصب خبر كون.
قوله: (والناس أجمعين) . هو من عطف العام على الخاص وهو كثير
وفي الحديث من الفوائد:
إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله؟!
وفيه أن الأعمال من الإيمان، لأن المحبة عمل، وقد نُفِيَ الإيمان عمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فدل على ذلك.
وفيه أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
وفيه وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر، ذكرهما الشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله.
[ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان] .
قال: ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
وفي رواية:
"لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ... " إلى آخره.
قوله: (ثلاث) :
أي ثلاث خصال. وجاز الابتداء بثلاث، لأن المضاف إليه منوي ولذلك جاء التنوين.
قوله: (من كن فيه) :
أي: وجدن وحصلن، فهي تامة.
قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان) :
قال ابن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} .
قلت: والشجرة لها ثمرة، والشجرة لها حلاوة، فكذلك شجرة الإيمان لا بد لها من ثمرة ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة. لكن قد يجدها المؤمن وقد لا يجدها وإنما يجدها بما ذكر في الحديث.
قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) . "أحب" منصوب لأنه خبر يكون.
قال البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه، فينفر عنه بطبعه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله.
فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك.
وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم لهم.
والحق خلاف ذلك بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبًّا قلبيًا كما في بعض الأحاديث:
"أحبوا الله بكل قلوبكم".
فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعًا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه، وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره، وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره.
فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها، وأما مجرد إيثار ما يقضي العقل رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ... إلى آخر كلامه. فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازمًا له لا أنه هو الحب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان،
لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئًا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك. واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى.
قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح يتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور:
_تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها:
فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن محبة الله ورسوله، لا يكتفى فيها بأصل الحب،
بل لا بد أن يكون الله ورسوله، أحب إليه مما سواهما.
ولا يكون كذلك !!
إلا إذا وافق ربه، فيما يحبه وما يكرهه، قال: وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
فإن من أحب مخلوقًا لله، لا لغرض آخر،
كان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله، وأولياءه، لأجل قيامهم بمحبوبات الله، لا لشيء آخر، فقد أحبهم لله لا لغيره.
قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يقذف في النار.
وإنما كره الضد، لما دخل قلبه من محبة الله، فانكشف له بنور المحبة محاسن الإسلام، ورذائل الجهل، والكفران، وهذا هو الحب الذي يكون مع من أحب، كما في "الصحيحين".
عن أنس: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة، فقال: ما أعددت لها؟
قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت"،
وفي رواية للبخاري
"فقلنا: ونحن كذلك، قال، نعم قال أنس: ففرحنا يومئذ، فرحًا شديدًا" .
وقوله: (مما سواهما) :
فيه جمع ضمير الرب سبحانه، وضمير الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنكره على الخطيب،
لما قال: ومن يعصهما، فقد غوى، وأحسن ما قيل فيه قولان:
_أحدهما ما قاله البيضاوي وغيره، أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام
الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. قلت: وهذا جواب بليغ جدًّا.
_الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز.
_وجواب ثالث: وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل، فيكون أرجح.
قوله: (كما يكره أن يقذف في النار) :
أي: يستوي عنده الأمران، الإلقاء في النار، والعود في الكفر.
وفي الحديث من الفوائد:
أن الله تعالى يحبه المؤمنون، وهو تعالى يحبهم، كما قال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
وفيه رد ما يظنه بعض الناس من أنه من ولد على الإسلام أفضل ممن كان كافرًا فأسلم، فمن اتصف بهذه الأمور، فهو أفضل ممن لم يتصف بها مطلقًا، ولهذا كان السابقون الأولون أفضل ممن ولد على الإسلام.
وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقًا،
والصواب أنه إن لم يتب كان نقصًا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار أفضل هذه الأمة، وإن كانوا في أول الأمر كفارًا يعبدون الأصنام، بلا المنتقل من الضلال إلى الهدى، ومن السيئات إلى الحسنات يضاعف له الثواب، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله.
وفيه دليل على عداوة المشركين وبغضهم!
لأن من أبغض شيئًا أبغض من اتصف به، فإذا كان يكره الكفر كما يكره أن يلقى في النار، فكذلك يكره من اتصف به.
قوله: (وفي رواية لا يجد أحد) :
هذه الرواية أخرجها البخاري في "صحيحه" ولفظه: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه
من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".
[لا تنال ولاية الله إلا بالحب في الله والبغض في الله]
قال: وعن ابن عباس قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا". رواه ابن جرير.
هذا الأثر رواه ابن جرير بكماله كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
قوله: (من أحب في الله) :
أي: أحب المسلمين والمؤمنين في الله.
قوله: (وأبغض في الله) :
أي: أبغض الكفار والفاسقين في الله لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس إليه،
كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .
قوله: (ووالى في الله) :
هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة.
فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا.
قوله: (وعادى في الله) :
هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه
أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه
كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
فهذا علامة الصدق في البغض في الله.
قوله: (فإنما تنال ولاية الله بذلك) :
يجوز فتح الواو وكسرها
أي: لا يكون العبد من أولياء الله ولا تحصل له ولاية الله إلا بما ذكر من الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله،
كما روى الإمام أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله، وأبغض لله، فقد استحق الولاية لله" .
وفي حديث آخر "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله عزّ وجل" . رواه الطبراني وغيره،
وينبغي لمن أحب شخصًا في الله أن يأتيه في بيته فيخبره أنه يحبه في الله كما روى أحمد والضياء عن أبي ذر مرفوعًا: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منْزله فليخبره أنه يحبه لله"
وفي حديث ابن عمر عند البيهقي في "الشعب" فإنه يجد مثل الذي يجد له.
قوله: (ولن يجد عبد طعم الإيمان ... ) إلى آخره:
أي: لا يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، وهذا منتزع من حديث أنس السابق وفي حديث أبي أمامة مرفوعًا "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" رواه أبو داود.
والعجب ممن يدعي محبة الله وهو على خلاف ذلك، وما أحسن ما قال ابن القيم:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبًّا له ما ذاك في إمكان
قوله: (وقد صارت عامة مؤاخات الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا) :
أي: المؤاخاة على أمر الدنيا لا يجدي على أهله شيئًا، أي: لا ينفعهم أصلاً، بل يضرهم،
كما قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} . فهذا حال كل خلة ومحبة كانت في الدنيا على غير طاعة الله، فإنها تعود عداوة وندامة يوم القيامة بخلاف المحبة والخلة على طاعة الله، فإنها من أعظم القربات
كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال:
"ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه"
وفي الحديث القدسي الذي رواه مالك وابن حبان في صحيحه:
"وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين فِيَّ، وللمتزاورين فِيَّ وللمتباذلين فِيَّ" .
وهذا الكلام قاله ابن عباس رضي الله عنه في أهل زمانه، فكيف لو رأى الناس فيما هم فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان؟!
ولكن هذا مصداق قوله عليه السلام:
"بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ" .
وفيه إشارة إلى أن الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر إلى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلاً عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن ماجة عن "ابن عمر قال:
لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم".
وأبلغ منه قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
فهذا كان حالهم في ذلك الوقت الطيب، وهؤلاء هم المتحابون لجلال الله كما في الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل:
"أين المتحابون لجلالي، اليوم أظلهم في ظلي"
فهذه هي المحبة النافعة لا لمحبة الدنيا،
وهي التي أوجبت لهم المواساة والإيثار على الأنفس. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله:
وقال "ابن عباس: في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة من الآية: 166] قال: المودة".
هذا الأثر رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
قوله: (قال: المودة) :
أي: المحبة التي كانت بينهم في الدنيا وتقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام: أنه قال لقومه:
{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أندادهم وأوثانهم كحب الله، فإنها عامة، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولهذا "قال قتادة: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة، من الآية: 166] .
قال: أسباب الندامة يوم القيامة".
والأسباب: المواصلة التي يتواصلون بها ويتحابون بها، فصارت عداوة يوم القيامة، يلعن بعضهم بعضًا. رواه عبد بن حميد وابن جرير فهذا حال من كانت مودته لغير الله فاحذر من ذلك.
......... ....
كتاب القول المفيد في شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا}:
قوله: باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا}
جعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب_ رحمه الله الأية هي الترجمة، ويمكن أن يُعنى بهذه الترجمة باب المحبة.
وأصل الأعمال كلها هو المحبة، فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب، إما لجلب منفعه، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئًا، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام: أو لغيره كالدواء.
وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرًا لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك.
ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله.
والمحبة تنقسم إلى قسمين:
_القسم الأول:
محبة عبادة :
وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة، فهو مشرك شركًا أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة.
_القسم الثاني:
محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:
النوع الأول: المحبة لله وفي الله:
وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله،
أى: كون الشيء محبوبًا لله تعالى من أشخاص، كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
أو أعمال، كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك.
وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله.
النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة:
وذلك كمحبة الولد. والصغار، والضعفاء، والمرضى.
النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة:
كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.
النوع الرابع: محبة طبيعية:
كمحبة الطعام، والشراب، والملبس، والمركب، والمسكن.
وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح، إلا إذا أقترن بها ما يقتضى التعبد صارت عبادة، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة.
وكذلك المحبة الطبيعية، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا (حبب للنبي النساء والطيب) من هذه الدنيا، فحبب إليه النساء،
لأن ذلك مقتضى الطبيعة ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب،
لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر،
ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
…فهذه الأشياء إذا اتخذها الأنسان بقصد العبادة صارت عبادة،
قال النبي: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
وقال العلماء: إن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، قالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه.
وقد ذكر الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله فى هذا الباب آيتين:
_الأولى التي ترجم بها وهي قوله:
{ومن الناس}:
{من} تبعيضية، هي ومجرورها خبر مقدم،
و: {من يتخذ} مبتدأ مؤخر.
قوله: {أندادًا}. جمع ند، وهو الشبية والنظير.
قوله: {يحبونهم كحب الله}. أي: في كيفيته ونوعه، فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة.
والكيفية: أن يحبه كمحبة الله أو أشد، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له، فلو قيل: أحلف بالله، لحلف، وهو كاذب ولم يبال، ولو قيل: احلف بالند، لم يحلف، وهو كاذب، وهذا شرك أكبر.
وقوله: {كحب الله}. للمفسرين فيها قولان:
_الأولى:
أنها على ظاهرها، وأنها مضافة إلى مفعولها،
أي: يحبونهم كحبهم لله، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله، فيجعلونها شركاء لله في المحبة، لكن الذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لله، وهذا هو الصواب.
_الثاني:
أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين.
أي: كحب المؤمنين لله، فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله- عز وجل، وهذا وإن احتمله اللفظ، لكن السياق يأباه،
لأنه لو كان المعنى ذلك، لكان مناقضًا لقوله تعالى فيما بعد: {والذين آمنوا أشد حبًّا لله}.
وكانت محبة المؤمنين لله أشد،
لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك، فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله.
فإن قيل: قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد نظرًا لقوله: {أشد حبًّا لله}،
فما الجواب؟
أجيب:
أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين وأحدهما خال منه تمامًا، ومنه قوله تعالى:
{أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24]،
مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير،
وقال تعالى: {الله خير أما يشركون} [النمل: 59]،
والطرف الأخر ليس فيه شىء من هذه الموازنة، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده.
-- مناسبة الآية لباب المحبة:
مُنع الإنسان أن يحب أحدًا كمحبة الله،
لأن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وهذا يوجد في بعض العباد وبعض الخدم، فبعض العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله،
قال تعالى:
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا أتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا} [الأحزاب: 67، 68].
وقوله: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} [التوبة: 24].
الآية الثانية قوله تعالى:
{قل إن كان إباؤكم وأبناؤكم}.
{آباؤكم}:
اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان
{أحب إليكم من الله ورسوله}،
والخطاب في قوله: {قل} للرسول والمخاطب في قوله: {آباؤكم} الأمة.
والأمر في قوله: {فتربصوا} يراد به التهديد،
أي: انتظروا عقاب الله، ولهذا قال:
{حتى يأتى الله بأمره} :
بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله.
فدلت الآية على أن محبة هؤلاء وإن كانت من غير محبة العبادة إذا فضلت على محبة الله صارت سببًا للعقوبة.
ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده، فهو يحب أباه أكثر من ربه.
وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح،
ولذا يروى عن الحسن ولذا يروى عن الحسب رحمه الله أنه قال:
«ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه»، فالجوارح مرآة القلب.
فإن قيل: المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها،
ولهذا يروى عن النبي، أنه قال:
«اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك»، وكيف للإنسان أن يحب شيئًا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنًا؟
أجيب:
أن هذا إيراد ليس بوارد، فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس،
إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة،
فمثلًا:
لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة صادقة، كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه.
وقال عمر رضى الله عنه للنبي:
«إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي.
قال النبي:
لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي. فقال النبي الآن يا عمر».
فقد ازدادت محبة عمر رضي الله عنه للنبي وأقره النبي على أن الحب قد يتغير.
وربما تسمع عن شخص كلامًا وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب، فتعود محبتك إياه.
عن أنس، أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». أخرجاه.
قوله في حديث أنس: «لا يؤمن». هذا نفي للإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفي الوجود، أي: نفي الأصل.
والمنفي في هذا الحديث :
هو كمال الإيمان الواجب، إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول إطلاقًا، فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان.
قوله: «من ولده». يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد، لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبًا.
قوله: «ووالده» يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت.
قوله: «والناس أجمعين»:
يشمل أخوته وأعمامة وأبناءهم وأصحابه ونفسه، لأنه من الناس، فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين.
وإذا كان هذا في محبة رسول الله، فكيف بمحبة الله تعالى؟!
ومحبة رسول الله تكون لأمور:
_الأول:
أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شىء، فرسوله أحب إليك من كل مخلوق.
_الثاني:
لِمَا قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته.
_الثالث:
لما آتاه الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
_الرابع:
أنه سبب هدايتك وتعليمك وتوجيهك.
_الخامس:
لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة.
_السادس:
لبذل جهده بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله.
_ ويستفاد من هذا الحديث ما يلى:
1- وجوب تقديم محبة الرسول على محبة النفس.
2- فداء الرسول بالنفس والمال، لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك.
3- أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته!
لأن ذلك من كمال محبة رسول الله، ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله: {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3]،
أي: مبغضك،
قالوا: وكذلك من أبغض شريعته، فهو مقطوع لا خير فيه.
4- جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم،
لقوله: «أحب إليه من ولده ووالده...»،
فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد.
5- وجوب تقديم قول الرسول على قول كل الناس :
لأن من لازم كونه أحب من كل أن يكون قوله مقدمًا على كل أحد من الناس، حتى على نفسك،
فمثلًا: أنت تقول شيئًا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجل
ويقول لك:
هذا يخالف قول الرسول، فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك، فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول، فتدع ما نهواه من أجل طاعة الرسول، وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول على قول كل الناس حتى على قول أبى بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم،
قال الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36].
لكن إذا وجدنا حديثًا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة أو مخالفًا لقول أهل العلم وجمهور الأمة، فالواجب التثبت والتأني في الأمر،
لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ.
ولهذا إذا رأيت حديثًا يخالف ما عليه أكثر الأمة أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رُسوِّها، فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر،
فإذا تبين، فإنه لا بأس أن يُخَصَّص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة، فالمهم التثبت في الأمر، وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التى ظهرت أخيرًا، وتركها الأقدمون وصارت محل نقاش بين الناس، فإنه يجب اتباع هذه القاعدة،
ويقال: أين الناس من هذه الأحاديث؟
ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله، لكانت منقولة باقية معلومة مثل ما ذكر أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل أن تغرب الشمس يوم العيد، فإنه يعود محرمًا، فإن هذا الحديث وإن كان ظاهر سنده الصحة، لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يُذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا، فالأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيها ويتثبت، ولا نقول: إنها لا يمكن أن تكون صحيحة.
مناسبة هذا الحديث للباب:
مناسبة هذا الحديث ظاهرة، إذ محبة الرسول من محبة الله، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين، فمحبة الله أولى وأعظم.
ولهما عنه، قال:
قال رسول: «ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار» وفى رواية: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى.....». إلى آخره.
قوله في حديث أنس الثاني:
«ثلاث من كن فيه»:
أي: ثلاث خصال، و: (كن) بمعنى وجدن فيه.
وإعراب (ثلاث): مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنها بها لأنها مفيدة على حد قول ابن مالك: ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد.
وقوله: (من كن فيه) :
(من): شرطية، و: (لكن): أصلها كان، فتكون فعلًا ماضيًا ناسخًا، والنون اسمها، و: (فيه): خبرها.
قوله: (وجد بهن) :
وجد: فعل ماض في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ.
وقوله: «وجد بهن حلاوة الإيمان»:
الباء للسببية، وحلاوة مفعول وجد،
وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللعاب والفم،
فالمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية.
_الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث:
قوله: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»:
الرسول محمد وكذا جميع الرسل تجب محبتهم.
قوله: «أحب إليه مما سواهما»:
أي: أحب إليه من الدنيا كلها ونفسه وولده ووالده وزوجه وكل شيء سواهما،
فإن قيل: لماذا جاء الحديث بالواو: «الله ورسوله»
وجاء الخبر لهما جميعًا: «أحب إليه مما سواهما»؟
فالجواب:
لأن محبة الرسول من محبة الله، ولهذا جعل قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ركنًا واحدًا، لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي.
_الخصلة الثانية:
قوله: «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله».
قوله: «وأن يحب المرء» يشمل الرجل والمرأة.
قوله: «لا يحبه إلا لله»: اللام للتعليل :
أى: من أجل الله، لأنه قائم بطاعة الله- عز وجل.
وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة:
يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته للاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، لكن إذا أحببت هذا المرء لله، فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان.
_الخصلة الثالثة:
قوله: «وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار».
هذه الصورة في كافر أسلم، فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وأنما ذكر هذه الصورة،
لأن الكافر يألف ما كان عليه أولًا، فربما يرجع إليه بخلاف من لا يعرف الكفر أصلًا.
فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار، فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان.
قوله: وفي رواية: «لا يجد حلاوة الإيمان».
أتى الشيخ محمد بن عبدالوهاب_رحمه الله بهذه الرواية،
لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.
وعن ابن عباس قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى فى الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان- وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا. رواه ابن جرير.
قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحب في الله). (من) شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة: (فإنما تنال ولاية الله بذلك).
و: (في):
يحتمل أن تكون للظرفية،
لأن الأصل فيها الظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية،
لأن (في) تأتي أحيانًا للسببية،
كما في قوله: «دخلت امرأة النار في هرة»
أي: بسبب هرة.
وقوله: (في الله): أي: من أجله، إذا قلنا: إن في للسببية،
وأما إذا قلنا: إنها للظرفية، فالمعنى: من أحب في ذات الله،
أي: في دينه وشرعه لا لعرض الدنيا.
قوله: (وأبغض في الله) :
البغض الكره:
أي أبغض في ذات الله إذا رأى من يعصى الله كرهه.
وفرق بين (في) التى للسببية
و: (في) التي للظرفية، فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهية هو في ذات الله- عز وجل، فيبغض من أبغضه الله، ويحب من أحبه.
قوله: (ووالى في الله).:
الموالاة هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك.
قوله: (وعادي في الله):
المعاداة ضد الموالاة، أي: يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله.
قوله: فإنما تنال ولاية الله بذلك. هذا جواب الشرط، أي: يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها، لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله.
وقوله: (ولاية). يجوز في الواو وجهان: الفتح والكسر، قيل: معناهما واحد، وقيل: بالفتح بمعنى النصرة،
قال تعالى: {ما لكم من ولايتهم من شيء}، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء.
قوله: (بذلك). الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه.
وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع،
لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا الإثر ضعيف.
فمعنى الحديث:
أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقل فضلًا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله، فيرى أعداء الله يشركون به ويكفرون به ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم؟!
فهذا لو صلى وقام الليل كله وصام الدهر كله، فإنه لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلابد أن يكون قلبك مملوءً بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوءًا ببغض أعداء الله ومعاداتهم،
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ** حبا له ما ذاك في إمكان
وقال الإمام أحمد رحمه الله:
(إذا رأيت النصراني أغمض عيني، كراهة أن أرى بعينى عدو الله).
هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما- والعياذ بالله- الذى يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي، فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله: {ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3].
وقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]
وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران:85]
ولكثرة اليهود والنصارى والوثنين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين المسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله- عز وجل-، بل هو عدو له أيضًا،
لقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا يتخذوا عدوي وعدكم أوليا} [الممتحنة: 1]،
فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة،
قال الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51].
فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم،
لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم يحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم، فهذه البلاد قال فيها الرسول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا»،
وقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب»
وقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»،
وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس ويختلط أولياء الله بأعدائه.
قوله: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا)
قوله: (عامة):
أي: أغلبية.
(مؤاخاة الناس):
أي مودتهم ومصاحبتهم،
أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه،
فما بالك بالناس اليوم؟
فقد صارت مؤاخاة الناس- إلا النادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم،
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27]،
ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله:
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} [الأنفال: 28].
ويستفاد من أثر ابن عباس رضي الله عنهما:
أن الله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن،
قال تعالى: {الله ولى الذين آمنوا} [البقرة: 257]،
وقال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} [المائدة: 55]،
فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى: {إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
(من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا).
والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة.
والولاية تنقسم إلى:
ولاية من الله للعبد، وولاية من العبد لله،
فمن الأولى قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257]
ومن الثانية قوله تعالى: {ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا} [المائدة: 56].
والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة، فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك،
ومنه قوله تعالى. {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق آلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} [الأنعام: 62].
والولاية الخاصة:
أن يتولى الله العبد بعناية وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين،
قال تعالى: {الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257]
وقال: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62].
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166]،
قال: (المودة).
قوله: وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب}،
قال: المودة. يشير إلى قوله تعالى: {إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}.
الأسباب: جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء.
وفى اصطلاح الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فكل ما يوصل إلى شىء، فهو سبب،
قال تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} [الحج: 15]،
ومنه سمي الحبل سببًا !
لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر.
وقوله: (قال: المودة). هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح، فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تنقطع بهم، ومنها محبتهم لآصنامهم وتعظيمهم إياها، فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات،
فقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون أخذ أندادًا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165]،
ثم قال: {إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166].
وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية كمودة الله تعالى ومودة ما يحبة من الإعمال والإشخاص، فإنها نافعة موصلة للمراد،
قال الله تعالى: {الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير أية البقرة
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابى للواقع، أن عامة المؤاخاة على مر الدنيا.
الثامنة: تفسير: {وتقطعت بهم الأسباب}.
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبًّا شديدًا.
العاشرة الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندًّا تساوى محبته الله، فهو الشرك الأكبر.
فيه مسائل:
_الأولى:
تفسير آية البقرة:
وهي قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله}. وسبق ذلك.
_الثانية:
تفسير آية براءة:
وهي قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم} الأية: وسبق تفسيرها.
_الثالثة:
وجوب محبته على النفس والأهل والمال:
وفي نسخة:
(وتقديمها على النفس والأهل والمال).
ولعل الصواب: وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث،
وأيضًا قوله:
(على النفس) يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو وتقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق
ومن قوله تعالى:
{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم أحب إليكم من الله ورسوله}، فذكر الأقارب والأموال.
_الرابعة:
أن تفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. سبق أن المحبة كسبية، وذكرنا في ذلك حديث عمر رضي الله عنه لما قال للرسول:
«والله إنك لأحب إلى من كل شىء إلا من نفسي. فقال له ومن نفسك.
فقال: الآن، أنت أحب إلى من نفسي» قوله:
(الآن) يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضاَ أن نفي الإيمان المذكور في قوله:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده...»
لا يدل على الخروج من الإسلام، لقوله في الحديث الآخر: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان»،
لان حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله، أي إن الدليل مركب من الدليلين.
ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل:
(إيمان لعابد صنم) فإن منع مانع من نفي الوجود، فهو نفي للصحة،
مثل:
«لا صلاة بغير وضوء»، فإن منع مانع من نفي الصحة، فهو نفي للكمال،
مثل:
«لا صلاة بحضرة طعام»، فقوله: «لا يؤمن أحدكم» نفي للكمال الواجب لا المستحب،
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله:
(لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع).
_الخامسة:
إن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. تؤخذ من قوله: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان»،
وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا أنتفت هذه الإشياء.
_السادسة:
أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الأيمان إلا بها. وهي:
الحب في الله، والبغض في الله، والولاء في الله، والعداء في الله.
لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الأنسان وصام ووالى أعداء الله، فإنه لاينال ولاية الله،
قال ابن القيم:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ** حبا له ما ذاك في إمكان
وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالي من عاداهم.
وقوله: (ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها) مأخوذة من
قول ابن عباس: (ولن يجد عبد طعم الإيمان...) الخ.
_السابعة:
فهم الصحابى للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدينا.
الصحابى يعني به ابن عباس رضي الله عنهما،
وقوله: (إن عامة المؤاخاة على أمر الدينا)،
هذا في زمنه فكيف بزمننا؟!
_الثامنة:
تفسير قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} ؛
فسرها بالمودة، وتفسير الصحابى إذا كانت الإية من صيغ العموم تفسير بالمثال،
لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم، فإنما يقصد به التمثيل، أي مثل المودة، لكن حتى الإسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة، فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرًا.
_التاسعة:
أن من المشركين من يحب الله حبًّا شديدًا :
تؤخذ من قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله}،
وهم يحبون الأصنام حبًّا شديدًا،
وتؤخذ من قوله تعالى: {والذين آمنوا أشد حبًّا لله}،
فأشد: اسم تفضيل يدل على الاشتراك بالمعنى مع الزيادة، فقد أشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبًّا لله من هؤلاء لأصنامهم.
_العاشرة:
الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه. الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى:
{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترافتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها}.
والوعيد في قوله:
{فتربصوا} فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمر هنا للوعيد.
_الحادية عشرة:
أن من اتخذ ندًّا تساوى محبته الله فهو الشرك الأكبر. لقوله تعالى: {يحبونهم كحب الله}، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركًا أكبر، بدليل ما لهم من العذاب.
...... ....................
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب_رحمه الله
باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً...}
وقوله: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24].
عن أنس: أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال:
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعينأخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان:
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار. وفي رواية: لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى... إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك؛ وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا" رواه ابن جرير.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ قال: "المودة".
باب ما جاء في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 165، 166]
هذه الآية الكريمة تدل على أن بعض الناس أشرك مع الله في المحبة لأندادهم وأصنامهم حتى عبدوها من دون الله، وهذه المحبة محبة العبادة شرك أكبر، سواء كان الند صنمًا أو ملكًا أو وليًا أو شجرة أو غير ذلك، يجب أن يكون حب العبادة لله وحده، حب التعبد والذل والانكسار وطلب الحاجات هذا يختص بالله سبحانه وتعالى.
أما الحب الطبيعي:
حب النساء، حب المال، هذا ليس له دخل في العبادة، إنما حب العبادة الذي يتضمن الخضوع والذل والانكسار وطلب الحاجات؛ هذا هو حب العبادة الذي فرضه الله على عباده أن يحبوا ربهم حبًا كاملاً، بل يجب أن يكون أحب إليهم من كل شيء، من الأهل والمال،
ولهذا في الحديث:
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان:
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
والمقصود من هذا أن الواجب إخلاص المحبة لله محبة العبودية، وأنه لا يجوز أن يُحب مع الله لا ملك ولا نبي ولا شجر ولا حجر محبة معناها التعبد، معناها اعتقاد العبودية فيه وأنه ينفع ويضر، أو أنه يصلح للعبادة، أو أنه يخاف ويُرجى أو أنه يصلي له ويسجد أو ما أشبه ذلك محبة العبادة.
أما المحبة الطبيعية:
محبة المال، أو محبة الأقارب، أو محبة الزوجة، هذه غير داخلة في هذا إلا إذا آثرها على محبة الله، إذا آثرها على محاب الله وقدم هواه صارت معصية، قدم هواه في الزنا، أو في طاعة الزوجة في المعصية، أو في طاعة الأولاد في المعصية؛
صار ذلك معصية ونقصًا في الإيمان، ولهذا يقول الله في الآية الكريمة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة: 24]
يعني إيثار هذه المحاب محبة الآباء والأبناء والأهل ونحو ذلك على الجهاد في سبيل الله وعلى طاعة يكون منكرًا عظيمًا وصاحبه مستحق للوعيد ولهذا قال: فتربصوا.
فمن آثر أولاده أو زوجته على الجهاد في سبيل الله أو على ما أوجب الله فهذا يكون منكرًا عظيمًا وخطرًا كبيرًا، بل يجب أن تخضع هذه الأمور لطاعة الله جل وعلا واتباع مرضاته، وأن لا يقدم شيئا منها على ما أوجب الله لا الجهاد ولا غيره.
ولهذا قال صلي الله وعليه وسلم :
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
قال عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي! قال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك! فهذه محبة العبادة يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من كل شيء بعد الله عز وجل محبة صادقة محبة تقتضي اتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه
كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31].
فالاتباع هو علامة المحبة، أما من ادعى محبة الله وهو يعصيه أو ادعى محبة الرسول وهو يعصيه، فدعواه كاذبة ليست صادقة بل ناقصة، حتى يؤدي ما أوجب الله ويدع ما حرم الله؛ فإن مقتضى المحبة الصادقة مقتضاها أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله وعدم طاعة الهوى أو الزوجة أو الولد في معصية الله عز وجل.
وهكذا قوله صلي الله وعليه وسلم:
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان:
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما يعني يؤثر محاب الله ومحاب الرسول على كل شيء، هذه علامة قوة الإيمان وكمال الإيمان.
وفي اللفظ الآخر: لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يكون كذلك، لا يجدها حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما إلى آخر الحديث.
وأثر ابن عباس: "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك"
يعني حتى يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي في الله ويعادي في الله،
قال ابن عباس في قوله جل وعلا: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166]
قال: المودة، يعني المودة التي لغير الله تقطعت بهم ما تنفعهم، إنما تنفعهم المودة التي في الله والحب في الله والبغضاء في الله هذا هو الذي ينفع،
أما المحبة للنسب أو للمال أو للمصاهرة أو كذا ما تنفع، إنما المحبة التي تنفع في الدنيا والآخرة ويحصل للعبد بها الأجر هي المحبة في الله والبغضاء في الله
الأسئلة:
س/كيف يعرف أنه يحبه في الله؟
الجواب/هو أعلم بما في نفسه، ومن علامات ذلك مجالسة الصالحين، وكونهم من جلسائه وأصدقائه، هذه من علامات الحب في الله، وبغض الفاسقين والبعد عن مجالسهم هذه من علامات الصدق، أما إذا ادعى محبة الله ومحبة رسوله وهو يهجر أهل الخير ويصاحب أهل الشر فهذا دال على كذب الدعوى.