الموت
مقدمة:
إن الواجب على المسلم الفطن أن يتفكر في أحوال الأمم السابقة والقرون الماضية، وقد بنوا المدائن، وجمعوا الخزائن، وحفروا الأنهار، وشيدوا القصور، وعمروا الديار، ولربما ظنوا أنهم في هذه الدنيا مخلدون، وما هم عنها براحلين.
إن الناس تتقلب في هذه الحياة، في حلوها ومرها، في صفوها وكدرها، في سعادتها وشقائها ،قال تعالي:(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) وفجأة يجدوا انفسهم أمام حقيقة عظيمة، طالما صرفوا أنفسهم عن التفكير فيها، وطالما تناسوها، ذلكم هو الأمر الكبار، إنه الموت،قال تعالي:(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ).
أبى الموت إلا أن يكـون لمن ثوى
من الخلق طراً حيثما كان لا قياً
حسمت المنى يا موت حسماً مبرحا
وعلمت يا موت البكاء البواكي
ومزقـتنا يا موت كل ممزق
وعرفتنا يا موت منك الدواهي
فللأسف الناس تعيش مرفهين في هذا الحلم، إذ هجم عليهم هادم اللذات ومفرق الجماعات (الموت)، فأصبحوا عظاماً رميماً، ورفاتاً هشيماً، وإذ بمنازلهم خاوية، وقصورهم خالية، وأجسادهم بالية، وأصواتهم خافتة.
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وقد خلفوا كل شيء وراءهم، لم يأخذوا معهم مالاً ولا جاهاً ولا منصباً، لم يأخذوا معهم إلا الصاحبَ الملازم وهو العمل.
وهاهم قد سكنوا القبور الموحشة حيث لا أنيس ولا صاحب، وقد تساوى في سكنها جميعُ الناس؛ غنيهم وفقيرهم، شريفهم وحقيرهم.
أتيت القبور فساءلتهـــا
أين المعظم والمحتــقــر؟
وأين المذل بسلطانـــه
وأين القوي على ما قـدر
تفانوا جميعا فما مخبـــر
وماتوا جميعا ومات الخـبر
فيا سائلي عن أناس قد مضو
أما لك فيما مضى معتبـر؟
تروح وتغدو بذاك الثــري
وتُمحى محاسن تلك الصـور
إن الموت أعظم واعظ وأبلغُ زاجر، قال صلى الله عليه وسلم، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره لما فيه من دفع المرء لعمل الصالحات، فقال صلى الله عليه وسلم:(أكثروا من ذكر هادم اللذات)حيث، وما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره؛ إلا لما يورثه ذكر الموت من القناعة في القليل، والحثِ على السير للدار الآخرة بزاد يَبْلُغ بصاحبه حيث النجاة؛ ولذا قال عمر بن عبد العزيز:(لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد).
فكم في تلك اللحظة من المعاناة !وما أشد الكربات ! فقد عانا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول (إن للموت لسكرات).
قال تعالي: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) فيا سعادة من كان آخر كلامه من الدنيا : لا إله إلا الله . ويا شقاوة عبد أعرض عن مولاه، وكان في الدنيا متبعاً لهواه .
أين من سعى واجتهد، وجمع وعدد، وبنى وشيد، وزخرف ونجد، وبالقليل لم يقنع، وبالكثير لم يُمتع؟
أين من شيد القصور، ونسي القبور، أين من قاد الجنود، ونشر البنود ؟،أضحوا رفاتا تحت أطباق الثرى،
ونحنُ عما قريب بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون، وعلى آثارهم مقتفون، ثم تؤخذون إلى الموضع الموعود، القبر وما أدراكم ما القبر .
تخيل نفسك وأنت في أول لحظة فيه، وقد أتاك الملكان، فسألاك عن ربك ودينك ونبيك، وقد ألهمت الصواب، وأحسنت الجواب .
ثم تأمل فيما بعد القبر وشدته، تأمل في يوم البعث والنشور، قال تعالي:(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
قال تعالي:(يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ)
قال تعالي:(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) وقال تعالي:(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً)
وقال تعالي:(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)
وقال تعالي:(يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)
وقال تعالي: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)
قال تعالي:(يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً)
قال تعالي:(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيه ِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )
قال تعالي:(يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) .
إنه والله الجد لا اللعب، والصدق لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعيه، فأعجل حاديه، فأكثر ذكر الموت هادم اللذات، وخذوا من مصارع ذويكم ومن حولكم أبلغ العظات.
وأن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، والليل والنهار يُقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، وفي ذلك ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات .
فكم من واثق في الدنيا فجعته، وكم من مطمئن إليها صرعته، سلطانها دول، وحلوها مر، وعذبها أجاج، العمر فيها قصير، والمقام فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر، دار مكَّارة، أيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة، وهي إما نِعَم زائلة، أو بلايا نازلة، أو منايا قاضية، عِمَارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب .
إن الموت هو تلك الحقيقة التي يوقن بها كلُّ عبد، ويعرف أنه منتهٍ إليها لا محالة، طال عمره أم قصر، فلا بد من ساعة الرحيل، وسكنى ذلك القبر الموحش، قال تعالي:(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)
فكم من صاحب قريب كنا نأنس بقربه، ونستعذب بحديثه هو الآن في ظلمة القبور، لقد تخطانا الموتُ إليه، ولا بد من ساعةٍ يتخطى غيرنا إلينا، فعلى أي حال سنكون؟ وماذا أعددنا لذلك اليوم؟
لقد خَوَّفَنا الموتُ بمن أخذ منا، ووعظنا بأخذهم أعظم موعظة، وحذرنا أشد تحذير، فهل أتعظنا؟!
ما لنا في كل يوم نشيع غاديا إلى ربه ونرجع وكأن شيئاً لم يكن؟
نرجع للغفلة والنسيان وركوب بحر التمني.
إن الموت وعد صادق،وحاكم عادل، وكفى به مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.
هل تفكرت في يوم مصرعك، وانتقالك من سعةٍ إلى ضيق، وقد فارقت الصاحبَ والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأُخِذْتَ من فراشك وغطائِك ولينِ لحافِك، وغطّوك بالتراب.
كأنَّ أهلك قـد دعـوك فلم
تسمع وأنت محشرجُ الصدر
وكأنهم قد قلبـــوك على
ظهر السرير وأنت لا تدري
وكأنهـم قــد زودوك بما
يتزود الهلكى من العــطر
يا ليت شعري كيف أنت إذا
غسلت بالكافور والسـدر
أو ليت شعري كيف أنت على
نعش الضريح وظلمة القبـر
فجدير بمن الموتُ مصرعهُ، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أَلاّ يكون له فكرٌ إلا الموت، ولا ذكرٌ إلا له، ولا استعداد إلا لأجله.
وحقيقٌ بأن يُعَّد نفسه من الموتى، ويراها من أصحاب القبور؛ فإن كل ما هو آت قريب.
تأمل مشهد الموت هو المشهد الذي ينتهي إليه كلُّ حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي.
الموت الذي يفرق بين الأحبة، ويمضي في طريقه ولا يتوقف، لا يستجيب لصرخة ملهوف، ولا لحسرة مفارق، ولا لرغبة راغب، ولا لخوف خائف، (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد).
الموت الذي به يُصرع الجبابرة، ويُقهر المتسلطون،كما يقهر به المستضعفون.
الموت الذي لا حيلة للبشر فيه، وهم مع ذلك لا يتدبرون القوة التي تجريه.
وحين تبلغ الروحُ التراقي، يكون النـزع الأخير، وتكون السكرات المذهلة، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار، ويتلفت الحاضرون حول المحتضر، يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ روح المكروب، (وقيل من راق) لعل رقية تفيده من السكرات والنـزع، (والتفت الساق بالساق) وبطلت كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وتبين الطريق الواحد الذي يسابق إليه كل حي.
في نهاية المطاف ..! (إلى ربك يومئذ المساق).
فتأمل حالك وتمثل نفسك، وقد رحلت عن الدنيا إلى ظلمة القبور وأهوالها، وبقيت رهيناً لعملك، فأي عملٍ يصاحبك في هذه الحفرة الضيقة؟، قال صلى الله عليه وسلم:(إذا مات ابن آدم تبعه ثلاثة؛ أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع أهله وماله، ويبقى عمله).
وقيل إن ملك الموت دخل على داود عليه الصلاة والسلام فقال:من أنت؟ فقال: من لا يهابُ الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرُّشا، قال: إذن أنت ملك الموت، قال: نعم. قال: أتيتني ولم أستعدَّ بعد؟، قال: يا داود أين فلان قريبك، أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرةٌ لتستعد؟.
ومر رجل بغلام فقال: يا غلام أين العمران؟قال: اصعد الرابية تشرف عليهم، فصعد فأشرف على مقبرة، فقال: إن الغلام جاهل أو حكيم، فرجع فقال: سألتك عن العمران، فدللتني على مقبرة، فقال الغلام: لأني رأيت أهل الدنيا ينتقلون إليها ولا يرجعون.
ومرّ عليٌّ رضي الله عنه بالقبور فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وإن شاء الله بكم عما قليل لاحقون، يا أهل القبور: أما الأموال فقد قسمت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا أن خير الزاد التقوى.
وما وعظ المرء نفسه بأعظم من ذكر الموت، قال الحسن البصري رحمه الله: (فضح الموتُ الدنيا لم يتركْ لذي لبٍّ فرحا)،
وقال مطرف بن عبد الله: (إن الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيماً لا موت فيه).
فهيا تفكر في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت في قبره بعد ثلاث لاستوحشت منه بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصديد، وتخترقه الديدان، مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وكان ذلك بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب، والقبر ينادي: ألا تسألني ما صنعت بالأحبة؟!
خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم، وأكلت اللحم.
ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والساقين من القدمين.
بكى عمر بن عبد العزيز وقال:(ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، شبابها يهرم، وحيها يموت؛ فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها).
وقال الحسن: (ابن آدم: إنك تموت وحدك وتُبعث وحدك وتحاسب وحدك، ابن آدم: لو أن الناسَ كلهم أطاعوا الله وعصيت أنت لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله وأطعت أنت لم تضرك معصيتهم.
ابن آدم: ذنبك ..ذنبك؛ فإنما هو لحمك ودمك، فإن سلمت من ذنبك؛ سلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى؛ فإنما هي نارٌ لا تطفأ، وجسم لا يبلى، ونفس لا تموت).
وحدثتـك الليالــي أن شيمتها
تفريق ماجمعتُـه فاسمـع الخبـرا
فهيا تب إلى ربك قبل أن تموت، وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن تشغل، وصِل الذي بينك وبين ربك بطاعته وكثرة ذكره تسعد، وأكثر الصدقة ترزق، وأمر بالمعروف تُخصب، وانهي عن المنكر تنصر.
واعلم أنك عن قليل راحل، وإلى الله صائر، فلا يغني عنك هناك إلا عمل صالح قدمته، أو حسن ثواب حزتمة، وإنما تقدُم على ما قدمت، وتجازو على ما أسلفت، فلا تخدعنك زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنة علية. وخذ من ذلك عبرة، فإن العاقل من انتفع بالموعظة، وأخذ حذره.
فهيا بادر بالتوبة والتغير والإصلاح قبل ان يفجعك الموت
الخلاصة:
أكثر من ذكر هادم اللذات، فقد أمرك نبيك صلى الله عليه وسلم بذلك، ففي ذكره حياة للقلب، وقرب من علام الغيوب، وتعجيل بالتوبة، ونشاط في العبادة .