صلاة الاستخارة
مقدمة:
كل إنسان في هذه الحياة تعرض له حاجات كثيرة يجد نفسه عند الإقدام على بعضها في حيرة وتردد، لا يدري أي الأمرين يختار ؛لأنه لايعلم ما الافضل له، وهذا الأمر يعاني منه الناس كثيرا فإذا فعلوا ولم يرضهم الفعل ندموا وإذا تركوا ولم يرضهم الترك أيضا ندموا، فيعيش من هذا حاله دائما في تذبذب وعدم ثبات, وحيرة،وقد غفل الناس عن أمر مهم جدا في هذا الشأن يبعث على الرضا والتسليم والسعادة وإن حصل مالا يرضي ظاهرا، ألا وهو استخارة الله في الأمر، واستشارة أهل العلم والصدق،
فهذه أسباب مشروعة شرعت لحكمة عظيمة،فشأن الاستخارة عظيم يجعل المسلم يضع حاجته بين يدي الله, واختياره تابع لاختيار الله, ومشيئته تابعة لمشيئة الله ،قال تعالي:(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فما يختار الله له يقبله ويرضاه براحة بال وطمأنينة نفس لأنه يؤمن بقوله سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)،
وبقوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)،
ومن توكل على الله، وفوّض الأمر له، كفاه ووفقه ووقاه وهداه,قال تعالى (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)،
وقد جاء في الحديث عن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سعادة ابن آدم استخارته الله عز وجل ....)، وزاد الحاكم:(ومن شقوته ابن آدم : تركه استخارة الله)،
وروى الترمذي رحمه الله: (من سعادة ابن آدم : رضاه بما قضى الله , ومن شقاوة ابن آدم: تركه استخارة الله , ومن شقاوة ابن آدم : سخطه بما قضى الله له )،
ولو علم كل إنسان ما في المستقبل لانكشف الأمر ولم يعد هناك أهمية للامتحان في الإيمان بالغيب والقضاء والقدر الذي هو ركن من أركان الإيمان , ولا اختار كل إنسان كل خير, وترك كل شر وقد قال الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ....)
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليمنا الاستخارة في الأمور كلها, فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ)_رواه البخاري.
فلنحرص على هذا الأدب النبوي الرفيع الذي لا يأخذ منا كثير وقت, ولنحرص على تطبيقه في أمورنا كلها، ولنبشر بكل خير والسلامة من كل شر فالله لا مكره لنا قال تعالي:(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا).
حكم صلاة الاستخارة:
صفة صلاة الاستخارة:
وهو أن يصلي ركعتين مثل بقية صلاة النافلة، يقرأ في كل ركعةٍ فاتحة الكتاب وما تيسر من القرآن، ثم يرفع يديه بعد السلام ويدعو بالدعاء الوارد في ذلك، وهو: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويُسميه بعينه من زواجٍ أو سفرٍ أو غيرهما) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به،_ رواه الإمام البخاري في صحيحه.أهمية صلاة الاستخارة :
أهمية صلاة الاستخارة تكمن في أوجه ثلاثة :
_ تجريد الافتقار إلى الله ، ونفي العلائق إلا بالله ، وتحقيق التوكل عليه سبحانه وتعالى ، وتفويض الأمور إليه ، وهي كلها معان سامية من معاني التوحيد والإسلام :تساعد صلاة الاستخارة في تحقيقها ، وتعين على قيامها ، خاصة لمن اعتاد اللجوء إليها ، واستشعر في قلبه حقيقتها وحكمة تشريعها .
يقول الغزالي في إحياء علوم الدين (1/206) :
(قال بعض الحكماء : من أُعطي أربعا لم يُمنع أربعا : من أُعطي الشكر لم يُمنع المزيد ، ومن أُعطي التوبة لم يُمنع القبول ، ومن أٌعطي الاستخارةَ لم يُمنع الخِيَرة ، ومن أُعطي المشورة لم يُمنع الصواب ) .
أما حديث : ( ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ) _فهو حديث موضوع ، انظر "السلسلة الضعيفة" (611) للشيخ الألباني .
_ الرضا بالقضاء والقناعة بالمقسوم :
( قال داود عليه السلام : رب ! أي عبادك أبغض إليك ؟ قال : عبد استخارني في أمر ، فخرت له ، فلم يرض به.
_الفلاح في الاختيار ، والنجاح في الأمر ، والتوفيق في السعي ، فمن فوض أمره إلى الله كفاه ، ومن سأل الله بصدق أعطاه حاجته ولم يمنعه:
فمن استخار الله تعالى في شأنه لم يندم على خياره ، وقام في قلبه من الطمأنينة واليقين ما يدفع عنه كل هم أو حزن يحصل في اختياره ، وهذا الوجه من أعظم الفوائد التي تجنيها صلاة الاستخارة في قلب العبد .
روى ابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (92) وغيره بسنده عن وهب بن منبه قال :
يقول ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب (157) :
(كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : ما ندم من استخار الخالق وشاور المخلوقين وثبت في أمره ).
ويجمع ابن القيم في شرح رائع لأهمية صلاة الاستخارة فيقول في زاد المعاد (2/442) :
وعوضهم بهذا الدعاء دعاء الاستخارة الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله ، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه ، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه ، فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد ، طالع أهل السعادة والتوفيق ، الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون .
فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه ، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة ، والإقرار بربوبيته ، وتفويض الأمر إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والخروج من عهدة نفسه ، والتبري من الحول والقوة إلا به ، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها ، وإرادته لها ، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق ،
وفى "مسند الإمام أحمد" من حديث سعد بن أبى وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله ، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله وسخطه بما قضى الله )
فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفا بأمرين :
التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله ، والرضا بما يقضى الله له بعده ، وهما عنوان السعادة . وعنوان الشقاء أن يكتنفه ترك التوكل والاستخارة قبله ، والسخط بعده .
والتوكل قبل القضاء ، فإذا أبرم القضاء وتم انتقلت العبودية إلى الرضا بعده ، كما في "المسند" ، وزاد النسائي في الدعاء المشهور : ( وأسألك الرضا بعد القضاء ) .
وهذا أبلغ من الرضا بالقضاء ، فإنه قد يكون عزما فإذا وقع القضاء تنحل العزيمة ، فإذا حصل الرضا بعد القضاء ، كان حالا أو مقاما .
والمقصود أن الاستخارة توكل على الله ، وتفويض إليه ، واستقسام بقدرته وعلمه ، وحسن اختياره لعبده ، وهى من لوازم الرضا به ربا ، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك ، وإن رضى بالمقدور بعدها ، فذلك علام).
الحديث :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلّمنا السورة من القرآن ، يقول :(إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله ، فاقدره لي ، ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل امري وآجله ، فاصرفه عني واصرفني عنه ، وأقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضيني به )_متفق عليه .
_ الاستخارة في الحديث تشمل :
أ ـ طلب خير الأمرين ، وهذا مأخوذ من معناها اللغوي .
ب ـ وتشمل أيضا إذا أراد الإنسان فعل أمر ما لقوله في الحديث :( إذا أراد أحدكم)
_ جواز صلاة الاستخارة كونها في السنن الرواتب فالحديث يدل على تداخل النية بين الاستخارة والركعتين غير الفريضة ، والتداخل بين بعض العبادات يصح بشروطٍ محلها كتب الفقه .
_ دعاء الاستخارة يدل على ضعف العبد ، وقلة علمه ، فهو يستخير ربه في أمره ، مما يدل على أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ومن تأمل ألفاظ الدعاء تبين هذا الأمر بوضوح ، فقوله :( فإنك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر )وغيرها يدل على ذلك .
فالتعبد لله باسمه الرزّاق يعني ألا يسأل العبد في رزقه إلا ربه ، وألا يتوكل إلا عليه ، وليعلم أن ما كتب له من رزق فسيلاقيه ، فيورث له ذلك الرضا بالقضاء.
_ قَدم في هذا الدعاء العلم على القدرة في قوله (اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك)فإن المستخير يسأل ربه أولاً بعلمه للخير ، ثم تأتي بعد ذلك قدرة الله على تيسير الخير للعبد ، فرتبهما في الدعاء حسب ترتيبهما في الوجود .
_كما يدل قوله :(وأسألك من فضلك العظيم )على أن فضل الله لا نهاية له ، فالله عظيم وفضله عظيم .
لأنه قال :(وأسألك من فضلك العظيم)وفضل الله لا يقدر عليه إلا الله فلهذا قال بعدها:(فإنك تقدر ولا أقدر)فقدم القدرة لتعلقها بتحصيل الفضل .
_الجمع بين لفظتي:(ديني ومعاشي)في الخير والشر ، يدل على أن ما كان خيرا في دين المرء كان خيرا في معاشه ، وما كان شرا على دين المرء كان شرا على معاشه .
أ ـ في دينه .
ب ـ في معاشه وهي دنياه .
ج ـ في عاقبة أمره وهي آخرته .
ومن رزق الخير في هذه الثلاثة فقد اكتملت سعادته ، وهنأ عيشه .
_حديث الاستخارة يدل على منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر ، وأن الله كتب كل شيء وقدره .
أ ـ أن يُقَدِّرَ الله له الخير ، أو يُقْدِرَهُ الله عليه ، أي يجعل فيه القدرة ، ولهذا قال:(فاقدره لي)
ب ـ أن ييسره الله له ، لأن الخير إن كان عسيرا استهلك وقتاً وجهداً في تحصيله ، وقد يستصعبُهُ فيتركَ طلبَهُ ، ولهذا كان من المناسب قوله :(ويسره لي).
ج ـ أن يبارك له فيه ، فإن لم تحصل البركة فإن العبد لا يستفيد من الخير كثيرا ، فكان من المناسب قوله :(وبارك لي فيه).
وبهذه الثلاثة يكمل الخير كله على الإنسان ، نسأل الله الكريم من فضله .
أ ـ أن يصرف الله الشر عن العبد ، ولهذا قال العبد في دعائه:(فاصرفه عني)
ب ـ أن يصرف الله العبد عن الشر ، فإن العبد جهول ظلوم ، ولهذا حَسُن قوله في دعائه :(واصرفني عنه).
ج ـ أن يقدر الله للعبد خيرا مما صرفه عنه من الشر ، ولهذا قال :(وأقدر لي الخير).
د ـ أن يُرضِى الله عبدَه بالخير الذي قدره له ، فإن العبد من جهله أحيانا أنه إذا لم يرض بما قدّره الله له تبقى نفسه معلقة بمرادها الأول الذي صرفها الله عنه ، فلا تزال معلقة به ، فتفسد عليها حياتها لفقدانها الرضا بالخير الجديد الذي كُتب لها ، ولهذا قال العبد:(ثم رضني به).
أ ـ أن يقدر له الخير ويعينه وييسره له .
ب ـ أن يصرف عنه الشر ، ويصرفه عنه .
ج ـ أن يعوضه عن الشر خيرا ، ثم يرضيه به .
فأي رحمة واسعة هذه الرحمة ، وأي كرم عظيم هذا الكرم .
_ في دعاء الاستخارة تمام الخضوع والذل لله ، ومن تأمل ألفاظ الاستخارة وجدها في غاية التذلل لله ، فقد نسب العلم كله لله ، والقدرة له ، ونفى العلم عن نفسه ، ونفى قدرته على فعل شيء ، ولا شك أن التذلل لله أحد ركني العبادة ، والمحبة ركنها الثاني وقد مضى التنبيه عليه .
_ من فوائد دعاء الاستخارة أنه يورث الطمأنينة ، ويزيل الاضطراب الذي يحصل عند البعض حين الإقدام على فعل شيء أو ترك شيء ، وهذه الاضطرابات والتردد كثيرا ما تعكر على الإنسان صفو حياته ، فجاءت الاستخارة مزيلة لكل هذه الأمور ، مورثة العبد المؤمن الطمأنينة .
الخلاصة:
_قال ابن القيم رحمه الله:
(عوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عمَّا كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام، الذي نظيره هذه القرعة، التي كان يفعلها إخوان المشركين، يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب، ولهذا سمي ذلك استقسامًا، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعَوَّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه، من التَّطَيُّر والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد، طالع أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من الله الحسنىٰ، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان.
(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )[الحجر : 96]
فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والخروج من عهدة نفسه، والتبري من الحول والقوة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق)_ زاد المعاد (2/443)..
_قال الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله:
(كان أهل الجاهلية إذا عنت لهم حاجة من سفر أو نكاح أو بيع، استقسموا بالأزلام، فنهىٰ عنه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه غير معتمد علىٰ أصل، وإنما هو محض اتفاق، ولأنه افتراء علىٰ الله بقولهم: أمرني ربي ونهاني ربي. فَعَوَّضَهُمْ عن ذلك بالاستخارة، فإن الإنسان إذا استحضر العلم من ربه، وطلب منه كشف مرضاة الله في ذلك الأمر ولج قلبه بالوقوف علىٰ بابه، لم يتراخ من ذلك فيضان سر إلهي، وأيضًا فمن أعظم فوائدها أن يفنىٰ الإنسان عن مراد نفسه، وتنقاد بهيمته لملكيته، ويسلم وجهه لله، فإذا فعل ذلك صار بمنزلة الملائكة في انتظاره لإلهام الله، فإذا ألهموا سعوا في الأمر بداعية إلهية، لا داعية نفسية).
وقال أيضًا: (وعندي أن إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب؛ لتحصيل شبه الملائكة، وضَبط النبي صلى الله عليه وسلم آدابها ودعاءها، فشرع الركعتين...)_ حجة الله البالغة (2/453، 454)..
_قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(وما ندم من استخار الخالق وشاور المخلوقين وتثبت في أمره, وقال قتادة: «ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هُدُوا لأرشد أمرهم» _الكلم الطيب لابن تيمية، ص (71)..
_ذكر ابن أبي جمرة رحمه الله عن بعض أهل العلم :
( أن من استخار في شيء فقُضِي له فيه قضاء ولم يرضَ، فإنه عندهم من الكبائر التي يجب منها التوبة والإقلاع؛ لأنه من سوء الأدب، وقالوا: ليس يخفىٰ؛
لأنه لما رجع هذا العبد المسكين إلىٰ هذا المولىٰ الجليل، ورغب منه أن ينظر له بنظره، فكيف لا يرضىٰ؟ فهذه صفة تشبه النفاق، بل هو النفاق نفسه؛ لأنه أظهر الفقر والافتقار والتسليم، ثم أبطن ذلك، فأين هذا الحال من قوله: وأستخيرك بعلمك؟)_بهجة النفوس (2/90).
_قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما سمعه منه ابن القيم رحمهما الله:
(إذا لم تجد حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتّهمه، فإن الرب تعالىٰ شكور، يعني أن لا بد أن يثيب العامل علىٰ عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة، وانشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول، والقصد أن السرور بالله قربة، وقرة العين به تبعث علىٰ الازدياد من طاعته، وتحث علىٰ الجد في السير إليه) مدارج السالكين (2/68).
من أعطىٰ أربعًا لم يمنع أربعًا:
1- من أعطىٰ الشكر لم يمنع المزيد.
2- ومن أعطىٰ التوبة لم يمنع من القبول.
3- ومن أعطىٰ الاستخارة لم يمنع الخيرة.
4- ومن أعطىٰ المشورة لم يمنع من الصواب_إحياء علوم الدين (1/213).