قال ابن مسعود رضي الله عنه:(إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثلما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطي خيرا فالله أعطاه، ومن وقي شرا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة).

 

 تمر الأيام بعد الأيام، وتنقضي الشهور والأعوام، ونحن في غفلة ساهون,قال تعالي: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء: 1-3].

 

لقد غفلنا ولم يغفل عنا، وفرطنا وما تركنا، وشيعنا الجنائز وما اعتبارنا، ورأينا كيف تتقلب الدنيا بأهلها فما اتعظنا ولا انزجرنا. 

إن من عرف حقيقة الدنيا زهد فيها وأهانها ليعيش عزيزا كريما. 

والدنيا مطية إن ركبتها حملتك، وإن حملتها أثقلتك، فكم من محتال فيها خدعته، سرورها إلى حزن، وعافيتها إلى سقم، ووجودها إلى عدم، عزيزها مغلوب، وأيامها دول، وحلوها مر، واجتماعها إلى افتراق، وبناءها إلى خراب، ما ذكرها الله في القرآن إلا ذاما لها قال تعالي:(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20]. 

فأين الأهل والآباء والأجداد والإخوان؟!


وأعلم أن من أكثر ذكر الموت وفق لثلاثة أشياء:

_تعجيل التوبة _وقناعة القلب _والنشاط في العبادة، 

ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:

_التسويف بالتوبة _وترك الرضا بالكفاف _والتكاسل في العبادات.

فعليك بمجاهدة النفس، وكفها عن هواها، ففي ذلك سعادة الأبد: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات[النازعات: 40- 41].

 

في مسند الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(المجاهد من جاهد نفسه في الله).

 وقال عبد الله بن عمرو لرجل سأله عن الجهاد:(ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها)

 وقال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه حين استخلفه:(إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك).

 

فيا بؤس لمن ترك المحاسبة، يا بؤسا لمن غرته نفسه الأمارة بالسوء، ودنياه الغرارة، فقدم إلى الآخرة مفلسا؛ قال الحسن البصري رحمه الله:(أيها المغرورون إنما الدنيا جيفة ينهشها عشاقها، وهم لا يشعرون، من ركن إليها ذلّ وافتقر، ومن زهد فيها عزّ واقتدر).

فلا تغفل عمن جعل لحياتك أجلا، ولأيامك ولأنفاسك أمدا، ومن كل ما سواه بد، ولابد لك منه. 

قال تعالي: ( وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ )

فأي الدارين تُريد؟ أتريد الدار التي فيها العذاب الشديد  لمن آثر الدنيا علي الآخرة؟ أم تريد المغفرة والرضوان  لمن آثر الآخرة علي الدنيا؟ إن العاقل إذا قرأ القرآن وتبصر عرف هوان الدنيا وأنها ليست بشىء وأنها مزرعة لآخرة فانظر ماذا زرعت فيها لآخرتك؟ ،فإن كنت زرعت خيرا فأبشر بالحصاد الذي يرضيك وإن كان الأمر علي خلاف ذلك فقد خسرت الدنيا والآخرة.

فداو قلبك، فالعباد يتفاضلون عند الله بقدر صلاح قلوبهم، واحذر كل سبب يقسي القلب؛ كأكل الحرام، والنظر المحرم، وكون الدنيا هي الهم والمقصد والغفلة عما يراد منك. 


واحذر الإصرار وترك التوبة والاستغفار، قال أبو الوفا بن عقيل: يا من يجد قسوة في قلبه! احذر أن تكون نقضت عهدًا، فإن الله يقول:(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)[المائدة: 13].

 

كم من قلب تكاثرت عليه الذنوب، وقل استغفار صاحبه وتوبته، فطبع عليه فكان من الغافلين: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14]. 

قال الحسن البصري:(هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب) 

وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن العبد إذا أذنب كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإنْ تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه)، فذلك الران الذي ذكره الله : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين" 14]". 

إن الناس كلما أحدثوا ذنبا نزلت بهم عقوبة: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46]. 

والجزاء من جنس العمل، قال تعالي: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[يونس: 25].


 لذلك هو يدعو إلى دار السلام التي من دخلها سلم من الآفات، وتنعم بالخيرات والملذات؛ قال يحيى بن معاذ:(يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام، فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها).

 

شغلت الدنيا الكثير من الناس عن دار البقاء، وشغلوا أنفسهم بالدار الفانية، حتى إن بعضهم لا يفكر إلا في الدنيا وأعمالها ومساهماتها وصناعتها وتقنياتها، حديثه في ذلك زاد عن الحد المعقول، أما تفكره في الآخرة وما يقربه إلى ربه فما جاء على باله، وإن جاء فهو قليل.

 

روى ابن حبان عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ مَنْ عَلَى الأَرْضِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى).

 

وفي البخاري عن ابن عمر قال:(أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)

 

وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)

 

لقد أوصى الأنبياء وأتباعهم بهذه الوصايا بأن لا تتخذ الدنيا وطنا، فقال مؤمن آل فرعون كما حكى الله عنه: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غافر: 39].

 

وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ أي نام في ظل شجرة ثم راح وتركها)_رواه أحمد والترمذي

 

وأوصى بذلك عدد من أصحابه، قال الحسن رحمه الله: (لما نزل بسلمان رضي الله عنه الموت بكى، فقيل: ما يبكيك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما إني لا أبكي جزعا على الدنيا، ولكن أخشى أن لا أكون حفظت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (ليكن بلاغكم من الدنيا كزاد الراكب) قال:(فلما مات سلمان نظروا فإذا نحو من قيمة ثلاثين درهما).

 

ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: (يا أبا ذر أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتاً نوجه إليه قال: لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا". قال: إن صاحب الدار لا يدعنا فيه).

 قال عمر بن عبدالعزيز في خطبته: (إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى).

 

ابن آدم: الغنى قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك، فإذا أصبحت معافى في جسدك، آمنا في بيتك، ذاكرا لربك، عندك قوت يومك، فقل على الدنيا العفاء.

 

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقَنَّعه الله بما آتاه)

 

ابن آدم: عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، فلا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع،قال تعالي: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)[الكهف: 45].

 

عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (مر بالسوق والناس عن جانبيه، فمر بجدي أسك ميت أي صغير الأذنين فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا أنه أسك فكيف وهو ميت، فقال صلى الله عليه وسلم: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) _رواه مسلم.

 

وفي الترمذي: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء).

 

وفيها أيضا: (ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما ومتعلما).

 

قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1].

 فقال: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك ليس لك إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ)_رواه مسلم.

ولما احتضر أحدهم بكى أبواه وولده وأهله، فسأل: ما الذي أبكاهم؟ فقال أبواه: نبكي لفراقك، وما تعجل من الوحشة بعدك. وقال أولاده: نبكي لفراقك وما يصيبنا من اليتم بعدك. فقال: كلكم يبكي لدنياي أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لما يلقى في التراب وجهي؟ أما فيكم يبكي لمسألة الملكين لي في قبري؟ ألا فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي ربي؟.


واعلم ان سبب خوف النبي صلي الله عليه وسلم  على أمتهِ من الانفتاح وبسط الدنيا، هو التنافس من أجلها، والانشغال بها ونسيانُ الآَخرة. لان الانشغال بها سببٌ لفساد رابطةِ الأخوة الإيمانية، وسبب للحسد والبغي، وسبب لتضييع أوامر اللهِ، وسببٌ للإسراف والطغيان، وسبب لتسلّط الأعداء. 


قال علي رضي الله عنه :(إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل وإتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).

  

قال ابن مسعود: (نعم كنز الصعلوك البقرة وآل عمران يقوم بهما في آخر الليل)

 

وعن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا أنتم هذه الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب)_رواه أحمد والترمذي وابن حبان.

 

وفي بعض طرق الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم هذه الكلمات أن يدعو بها في الصلاة، أو في دبر الصلاة، فأشار إلى أن كنز هذه الكلمات أنفع من كنز الذهب والفضة، حيث أن العمل الصالح من ذكر ودعاء وتلاوة وغيرها يبقى نفعه، أما الذهب والفضة فيفنى، قال تعالي: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ) [النحل: 96].

 

وفي حديث ثوبان لما نزلت هذه الآية: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة: 34] قال النبي صلى الله عليه وسلم:(تبا للذهب والفضة قالوا: يا رسول الله فما نتخذ؟ قال: "ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا، ولسانا شاكرا، وزوجة صالحة، تعين أحدكم على إيمانه)_رواه أحمد والترمذي.

ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم لم يخف علينا الفقر، بل خاف علينا فتنة الغنى، وزهرة الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:(إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)


‏نمضي ونحسبُ أن الوقت يُمهلنا

والعمر في رَكْبِهِ يمضي على عجلِ

مسافرون..ولو طال الطريق بنا

إنّا على موعدِ يومًا مع الأجلِف

استنهضوا النفسَ إن النفسَ ديدنُها 

دومًا يميلُ إلى التسويف والمللِ

كفى به هادمُ اللذاتِ موعظةً 

إن غرْغَرَتْ هل لها في العَوْد من أملِ؟


هيا بادر بالتوبة والتغير والإصلاح

فالموت ياتي فجأة